نبدة عن ادري مشاركة: من ادري
بتاريخ: 2009-08-26 (02:29:36)
الكاتب عمر امحمد عياد
في طفولتي الباكرة كنت أحسب أن ادرى هي المنطقة الوحيدة في الوجود وأن السماء سقف صلب أزرق تلتقي مع الأرض هناك خلف كثبان الرمال البعيدة وأن الله الذي يصلى له الناس في القرية يسكن في مكان ما أعلى ذلك السقف ولا شغل له إلا ادرى وأهل ادرى وعندما كبرت أدركت سذاجة تفكيري وعرفت أن بلدي ليس الإ قطرة من بحر خضم متلاطم في هذا الكون الواسع البديع إلا متناهي, ولكني أدركت أيضا أن قيمة المكان ليس خاضعاً للمساحة أو للشكل أو للعدد بل يتجاوز كل هذه الأوزان المقاييس ويرتبط بالدرجة الأولى بدور وفاعلية وإرادة وتصميم الأفراد القاطنين فيه.
تقع مدينة ادرى في الجنوب الليبي وهى الجوهرة الأخيرة في عقد واحات وادي الشاطي وتأتى بين خطى عرض 27.00 جنوباً و28.15 شمالاً وبين خطى طول 12.00 درجة و13.15 درجة شرقاً , وتضاريسياً تقع ادرى بين جدارين رائعين جنوبي مكون من كثبان الرمال الزهرية الرائعة وشمالي من الجبال السوداء إما محيطها القريب فتطوقها غابات النخيل الخضراء لهذا تبدو القرية من عل واحة جميلة تتمازج فيها الألوان والأضواء والظلال , وبلغ عدد سكانها منتصف الخمسينات 750 نسمة وفى عام 2002 افرنجى بلغ 4755 نسمة .
لكن من أين جاءت تسمية ادرى ؟ وجدنا في كتاب رحلة الكلمات للدكتور على فهمي خشيم أن ( ادر = جبل ) في اللغة العربية وفى اللغة التي كان يتحدثها أهل فزان الأوائل وفى الطارقية أن إدرار تعنى جبل به صخور وجبل ادرى المسمى القصبة به صخور واليا المكسورة للملكية بمعنى جبلي أو بلدي والله أعلم.
والغالبية العظمى من أهل ادرى عرب أقحاح وفيها مجموعة من الطوارق مما يعطى للقرية تنوعاً عرقياً وغنى تراثياً يفترض أن يكون عامل قوة وتميز ويستغل للبناء والتقدم
وادري من أقدم قرى فزان، عريقة، ماجدة، أصيلة، ومباركة بأذن الله ،غنية بتراثها وفنونها وهى قرية رمزية تاريخية كغدامس وغات وزويلة ومرزق وجرمة فعلاوة على الشواهد والآثار الموغلة في القدم والتي تذل على أنها كذلك فقد ذكرت قصداً أو عرضاً في الكثير من الكتب التي خاضت في تاريخ فزان أو الجرمنت ما قبل الميلاد وما بعده على أنها نقطة على أحد أهم طرق القوافل التي كانت تربط المدن الساحلية بوسط أفريقيا في الألف الأول قبل الميلاد فوردت في نص المؤرخ الروماني بليني تحث أسم ماتلجا, ووردت في سلسلة تاريخنا, ورسمت في خريطة الدروع الجرمنتية وذكرت في كتاب الجرمنتيون وفى كتاب جرمة من تاريخ الحضارة الليبية وفى كتاب ليبيا في التاريخ وجغرافية فزان ووردت في كتاب ابوعبيد الله البكرى ( المغرب في ذكر بلاد أفريقيا والمغرب ) والذي يعد من أمهات الكتب وذكرت ادرى في كتاب الفتح العربي في ليبيا ومر بها رحالة أجانب كدنهام وبارت الذي خلّد قصبتها برسمة هي كل ما بقى منها بعد أن دمرها الإيطاليون.
ادرى قرية الماء والقصبة والنخيل والرمال والألفة والمحبة ازدهرت وعلا صيتها في عهد الجرمنت حتى بتنا نعتقد أنها كانت المدينة الثانية بعد العاصمة جرمة والله أعلم , وازدهرت في القرن السابع عشر تحث حكم دولة أولاد أمحمد وكانت مصدر أشعاع ديني وثقافي ولموقعها الجغرافي القصي جعلها في منأى عن الاختلاط بألسن الغرباء لذلك حافظت على الكثير من مفردات اللغة العربية القحة فمثلاً قال عن ادرى الأستاذ محمد الأسطى عام 1937 ( شدتني عدة ملاحظات فالحديث بين التلاميذ ووسط البنات يدور بلغة عربية فصحى عبر لهجة بدوية محببة... ولاحظت في ادرى من العادات والتقاليد العربية والإسلامية الأصلية ... وأصبحت ادرى جزء من حياتي وعياً وذكريات ،رغم قصر المدة التي قضيتها فيها ) ولقد أشاد الكثير من المهتمين بالأدب والعلم والتراث بوادي الشاطي على تميز المنطقة ومنهم الدكتور محمد سعيد الذي قال ( إن أدري هي قاعدة الثقافة الرصينة بوادي الشاطئ ) .
لكن لم تكن كل أيامها ازدهار فلقد تعرضت عبر تاريخها المديد إلى الغزو والاستعمار والتدمير والاستضعاف والهمجية .
وعندما غمسنا ريشتنا في المداد وبدأنا نكتب لم يكن في نيتنا ولا في مخيلتنا إصدار هذا الكتاب بل كان هدفنا كتابة مقالة عن معمار ادرى القديم, وتحريا للدقة أعدنا زيارة القرية القديمة وتفحصنا الجدران والسلالم والأسقف وللاستفسار والاستزادة قابلنا كبار السن وللتدليل دعمنا كلامنا بالصور وفى أطار العمران تناولنا المسجد القديم وأماكن المدرسة والعيادة والمستوصف تم رأينا أن الكلام عن المبنى لا معنى له دون الإشارة إلى النشاط الذي يمارس فيه والأجيال التي تعاقبت عليه وهكذا أخد الكلام بعناق بعضه بعضا ..والحاصل وجدنا أن المقالة طالت وطالت وما عادت مقالة, وكان لنا بحث سابق بعنوان ادرى في التاريخ يتكلم عن الحقب الزمنية حتى عام 1952, فخطر لنا أن نجمع الزمان و المكان في سيرة واحدة , وهكذا بدأنا جهداً أستمر ثلاثة سنوات متقطعة , حاولنا فيه توثيق تاريخ القرية وحفظ ذاكرتها وأرشفة قطاعاتها الرسمية وتكوين قاعدة معلومات نحسب أنها مهمة لمن أراد أن يبحث ويضيف .
ومكنتنا محدودية القرية من حيث السكان وأيضا تفردها المكاني من رصد تاريخها ويصعب ذلك في المدن للحركة السكانية الدائمة والأتساع الجغرافي وأيضا سمحت لنا بالخوض في التفاصيل وذكر إنجازات صغيرة وعلى مستوى الفرد أحيانا وهذا صعب عند الكتابة عن المدن الكبرى ،لكن هذه الميزة كانت عيباً في مواضع أخرى فمن صعوبات البحث في تاريخ منطقة محدودة هو قلة المراجع والدراسات عنها،وأجبرنا ذلك على أعطاء فكرة عامة أو مقدمات تاريخية كي نضع القاري في السياق العام للحدث أو الدولة أو الاستدمار الذي مرت به القرية .
وأشعر بأن الكتابة عن القرى واجب على كل كاتب ينهض منها فكثيرون هم الذين كتبوا ويكتبون عن المدن ورغم تواضع تجربتنا إلا أننا نشعر بفرحة غامرة كلما كتبتنا سطراً عن قريتنا ونشعر بأننا نتخفف من عبء فوق أعناقنا ونحن نلملم ما أمكن من تاريخها وقصصها وخرافاتها وأساطيرها ونحفظ على الورق أنفاس الناس وآلامهم ومعاناتهم وابتساماتهم, ومن جهة أخرى نشعر ونحن نكتب عن قريتنا أننا نكتب عن قرى كثيرة في فزان فالمستعمرين الذين تعاقبوا قيدوا كل المنطقة بسلسلة واحدة وجلدوها بسوط واحد ، أما الزراعة وأدواتها وأساليبها فمتشابهة حد التطابق تقريباً ، وفي زمن متقارب نفدت الكثير من المشروعات الإسكانية وفتحت الأسواق العامة وكذلك وصلت الخدمات ورصفت الطرق ،ومن هنا فحتى التاريخ الادارى والعمراني {إذا جازت التسمية} متشابه أيضا .
ونرى أن كتابة التاريخ وقرأته واجبة لأنه مخزن التجارب والأحداث والعبر ومن يتجاهل التاريخ يكرر ذاته دوماً يدور في حلقة مفرغة والسبب هو فقدان الذاكرة, ينسى ما حدث وعليه أن يعيش المأساة مرة أخرى يقول شاعر :
من لم يعي التاريخ في صدره لم يدر حلو العيش من مره
ومن وعى أخبار من قد مضى أضـاف أعمارا إلى عمره
لكن هناك من يغالى ويغرق في التاريخ ويسكن فيه ويمضغه ويجتره ويعيد اجتراره وتمر السنون ويجد نفسه واقفاً في مكانه إن لم يتقهقر للخلف ،وقد يصاب المجتمع كاملا أو الأمة بمرض التاريخ أو التراث أن جازت التسمية ، فتستشري موجة البحث عن الأصول والأنساب ،وتكثر المهرجانات والبرامج التراثية ،وتتعدد الإصدارات الأدبية التي تهتم به .
لعن الله التاريخ إذا أدى إلى هذه النتيجة،وساق إلى هذا المساق.
إن التاريخ يقرأ لاستخلاص العبر وأخذ الدروس المستفاده ويوظف كجسر ووقود وأداة للقفز والانطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقا ومجدا .
تم أن مرور الزمن يعتق الماضي ويضفى عليه قدراً من القدسية والجلال فتجد من يحن له ويتباكى عليه لكن الحقيقة أنها أيام قاسية مسربلة بالجوع والعوز والفاقة والجهل والمرض والضعف مغموسة في العرق والدم والألم والمعاناة فلا أعاد الله تلك ألأيام أبداً .
ونكتب لأننا شهود عيان على مفصل زمني فلقد فتحنا أعيننا على مجتمع زراعي يتلاشى ومجتمع جديد يتشكل ، ونحن شهود عيان كوننا جبلنا من طين القرية وأوحالها وولدنا في بيت تضلله القصبة كل مساء ، فادري لنا كما قال الشاعر :
بلاد بها نيطت علي تمائمي وأول أرض مس جسمي ترابها
ولازالت ترن في أداننا زغردات النسوة وصوت الطبل والمقرونة وأغان الشعراء الشعبيين وكذلك صياح الماعز وتغريد الحمام ولازلت أجد في حلقي طعم مياه نبع ( طناز ) وطعم المرارات التي يكابدها الناس, وتدور متناوبة في أنفنا رائحة البخور والعرق و روث الماشية وروائح التربة عقب سقوط المطر, ومن هنا فنحن نقدم أنفسنا بأنفسنا للآخرين وما أجمل أن تقدم نفسك ولا تترك المهمة لرحالة أجنبي أو باحث من ديار قصية يتولى المهمة نيابة عنك وإذا نفعل ذلك حاولنا بإخلاص تكذيب القاعدة التي تقول( عندما يكون الباحث جزء من المبحوث يستحيل الحياد)
ونحن هنا لا نؤرخ لملوك و أباطرة بل يشرفنا أننا نؤرخ للمواطن البسيط الكادح والذي يتصبب العرق من جبينه وإبطيه ، صاحب اليد الخشنة التي يحبها رسول الله ،وحاولنا ما أمكننا أن نشير إلى مصدر كل معلومة أوردناها وان نحفظ لكل شخص ريادته فذكرنا أول من ادخل جهازا أو تقنية أو أقام مشروعاً أو محل، وللتمييز قرنا أرانا الشخصية وتحليلاتنا بكلمة نحسب أو نعتقد أو لله أعلم ، وكنا بين الفينة والأخرى نلوم أنفسنا على ذكرنا للتفاصيل الصغيرة التي لاتهم القاري البعيد وقد يفضل حتى ابن القرية لو تركناها لسافي النسيان .
وأمام معرفتنا أن رضاء جميع الناس غاية لا تدرك فحسبنا حينها رضي الغالبية العظمى.
الكاتب
عمر امحمد عياد